شيء من عبق الرسول
منصور النقيدان
بقيت أوصاف الرسول الخَلقية والخُلقية، التي حكاها أصحابه وتناقلتها كتب السير والشمائل ملهمة لأتباعه يتطلعون للاقتداء به، ويسعدون حين تقارب سحنة أحدهم وصفاً يقاربه أو حالاً يتفق مع شيء من أحواله
يذكر سمير غريب رئيس قسم التنسيق الحضاري بوزارة الثقافة المصرية أن أحد أباطرة الصين طلب من بعض فناني المسلمين عمل صور للرسول محمد عليه الصلاة والسلام بعد وفاته بمئتي عام، فقاموا في البدء بجمع أوصافه من كتب المسلمين، مثل السيرة النبوية وكتب الشمائل المحمدية، وبعدها قدمت له صورته وفق ما توفر لديهم، وهذه القصة تشابه قصة مجموعة الجمال وهي إحدى وأربعون لوحة قام بعملها مجموعة من الفنانين الألمان، تلبية لرغبة ملك بافاريا الملك لودفيغ، تختصر جمال نساء الكون في تلك الإحدى والأربعين فتاة اللواتي استغرق البحث عنهن مايقارب خمسة وعشرين عاماً.
وكان بعض سلاطين العثمانيين وملوك الفرس يحتفظون في قصورهم بجداريات تضمنت رسوماً للرسول، وحسب معلوماتي فإنه من ضمن 600 قطعة يحتفظ بها متحف (الأمانة المقدسة) في إستانبول بعض من هذه الجداريات التي لا يتاح معظمها للزوار، والتي كانت ضمن مقتنيات الباب العالي، وفي بازارات مدينتي مشهد وقم الإيرانيتين تباع منسوجات عليها صورة ل(حضرت محمد)، في فترة صباه شاباً يافعاً يرتدي رداءً، مفلوج الأسنان، حيث يجيز عدد من مراجع المذهب الشيعي تصوير الرسول إذا كان ذلك في إطار الصورة المتخيلة للجمال والبهاء النبوي. لكن بعض ملامحه، مثل حاجبيه المفروقين وأنفه، لاتتطابق مع ماتناقلته مرويات أهل السنة عن أوصاف الرسول بعد النبوة، من أنه كان أقرن الحاجبين أشم الأنف.
بعد وفاة الرسول بفترة وجيزة كان الصحابة والتابعون يتقفرون بقايا صورته في بعض أهل بيته والأدنين من عشيرته، آثاراً من أوصافه تذكرهم به وبسيرته وحياته، وكان قثم بن العباس ابن عم الرسول أشبههم به، ولهذا كان محظياً من والده العباس وله مكانة خاصة وكان العباس يرقصه وهو طفل صغير ويلاعبه وينشد: حبي قثم ٭ حبي قثم ٭ شبيه ذي الأنف الشم ٭ رسول ربي ذي النعم
وكان جعفر بن أبي طالب هو أكثرهم شبها بالرسول، ولكن جعفراً توفي في غزوة مؤتة والرسول بين ظهراني المؤمنين .
بقيت أوصاف الرسول الخَلقية والخُلقية، التي حكاها أصحابه وتناقلتها كتب السير والشمائل ملهمة لأتباعه يتطلعون للاقتداء به، ويسعدون حين تقارب سحنة أحدهم وصفاً يقاربه أو حالاً يتفق مع شيء من أحواله، طريقته في التبسم، وهيئته حينما يلتفت، ونهجه الأعظم في التعامل مع الأطفال والنساء، وأسلوبه في الحديث والخطابة، وحياؤه الشديد وخجله حينما يبدو على وجهه الغضب كحبات الرمان، أوحينما يغضي حياء عن الإساءة.
وحيث إن المسلمين لا يملكون أي صور أو رسوم للرسول عليه السلام ألبتة، لا في حياته ولا بعد وفاته مع إمكان ذلك واقعاً، لا بين ظهراني عرب الحجاز ولا عند غيرهم ممن هم مظنة ذلك، كما في القصة الشهيرة لالتقاء الرسول ببحيرا الراهب في الشام قبل النبوة، حيث كان الأخير مهتماً به، مندهشاً حسب ما يحكى من علامات رآها وآيات تعزز اعتقاده بأن محمداً سيكون نبي العرب القادم، فقد عوض المسلمون عن ذلك وسدوا النقص بحكاية أدق الأشياء عنه: عدد الشعرات البيضاء في لحيته، وفي رأسه واختلاف أحوال شعر رأسه حسب المناخ، من لمة إلى وفرة، إلى جمة، وبياض أسنانه ولون بشرته، وشعر جسده، وشكل فمه، وطوله وعرضه، ولهذا ارتبطت مصداقية رؤيا المؤمن للنبي في المنام بمدى مطابقتها للأوصاف التي ذكرت له واستوفتها كتب السنة والسيرة وأفردت في كتب عرفت باسم الخصائص المحمدية أو باسم الشمائل.
روى البخاري أن الرسول قال: «من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي»، ولهذا طفحت كتب السلف والصوفية والنساك بقصص الأشخاص الذين رأوه في المنام، وكانت رؤيتهم له انقلاباً ومنعطفاً كبيراً في حياتهم، إما لأنه أفضى إليهم بأشياء تخص روابطهم الأسرية والاجتماعية، أوذات علاقة مباشرة بصلتهم بالله ومدى تمسكهم بشعائر الدين، أو لأن لقاءهم به حمل بشرى ووعداً لهم بالنجاح ويسر الأمور وتجاوز المحن، أو كانت الرؤيا سبباً في حل إشكال عقدي ومسألة فقهية مستعصية، لكن أحداً من علماء السنة قطعاً لم يقل بجواز أن يستلهم من تلك الأخيلة والمنامات التي يتم اعتبارها رؤى حقيقية و(وحياً من الله)- حيث الرؤيا الصادقة جزء من النبوة، ومن المبشرات- صوراً تجسده أو تقارب خياله في رؤى الصالحين من عباده.
وأحد مبررات التحريم لدى المانعين أنه لايمكن مهما حاول بنو الإنسان أن يقاربوا صورته وخياله الشريف أن يطابقوا الواقع أو أن يقاربوه، ولكننا نجد في السيرة النبوية قصصاً تحكى عن أشخاص لم يلتقوا بالرسول من قبل، تمكنوا من معرفته وتمييزه بين أصحابه وهو ساكن لا حراك له، وحواريوه يحيطون به كالعقد، ولولا الأوصاف التي نقلت عنه ومقاربة الآخرين لأخيلة في أذهانهم لشكله لما عرفوه، وهذا شيء بديهي، وفي سورة الأنعام يقول القرآن الكريم: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم مايلبسون}. ولو كان الرسول شيئاً متعالياً عن الشبيه لما كان لآية: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} أي خصوصية بالله كما يعتقد المسلمون.
كما يذكر آخرون أن سبب التحريم هو أن محاولة تصويره إساءة له بحد ذاتها، وأنا أترك التعليق على هذه النقطة.
وثالثها حرمة التصوير في الإسلام، وتشتد حرمته حسب المانعين له إذا تعلق بالرسول الخاتم، فيكون تحريماً مضاعفاً، مثل مقارفة الكبيرة في الحرم، وتخبيب زوجة الجار، وزنا المحارم.
يذكر المفكر الإسلامي التونسي يوسف الصديق أن مسألة تصوير الرسول عليه السلام تحليلاً أو تحريماً بقيت مسألة مسكوتاً عنها لأربعة أو خمسة قرون من وفاته، مستدلاً بأن القرآن خال تماماً من أي ذكر لها. كان الرسول كثيراً ما يضرب الأمثلة لأصحابه ويستخدم الرسوم لتوضيح مراده كما في وصفه لصراط الله المستقيم وللسبل التي تتناوحه وتختطف المسلم وتضله عن سبيل الله، حيث قام برسم خط مستقيم وحوله خطوط، وعند المسلمين أن الملائكة في مرتبة تضاهي مرتبة الأنبياء، ومنهم رسل مثل جبريل صديق الرسول ومبلغ الوحي الأمين، وأحاديث السنة تطابقت على أنه كان يأتي إلى الرسول بصورة تتطابق مع صورة دحية الكلبي، الذي يقال إن الشيطان جاء مرة على هيئته أيضاً في إحدى غزوات الرسول مرجفاً بينهم يبث الشائعات لإحداث فتنة بين المسلمين والتشبيه عليهم.
لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة عام الفتح لتطهيرها من الأصنام وبقايا الجاهلية وجد رسوماً على جدرانها تصور إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فأنكر ذلك واستعظمه وبرأهما، وقام فبلل رداءه بالماء ومسح تلك الصور، وكانت تلك الحادثة مع أخريات غيرها من وقائع ووصايا للرسول تحدد موقف الإسلام من التصوير والرسوم عامة، ومن صور تسيء إلى الأنبياء خاصة وتصورهم بغير الحقيقة القرآنية.
ويذكر ابن القيم الحنبلي في كتاب زاد المعاد أن علياً بن أبي طالب دخل إحدى الكنائس فوقف طويلاً يتأمل ويتعجب من رسوم تصور المسيح وأمه العذراء.
يذكر أحد الصحابة أنه رأى الرسول عليه السلام ذات مرة ورأى القمر ليلة البدر، فلا يدري أيهما أجمل، الرسول أما البدر، ويقول أنس بن مالك خادمه إنه لم يمس يداً ألين وأنعم من القطن مثل كف الرسول.
تذكر عائشة زوج النبي أنها ذكرت للرسول أحد المنافقين وجعلت تحاكي مشيته وتسخر منه، فكره الرسول ذلك منها وقال: «ياعائشة ما أحب أنك فعلت ذلك».كان هذا الموقف الأخلاقي العظيم لنبي مؤيد من السماء، في حديث خاص بينه وبين أحب نسائه على قلبه , وأكثرهن حظوة عنده، إنسانة بلغ من ثقتها بحبه لها، أن قالت لأبيها والرسول يسمعها بعد تبرئتها من قصة الإفك المؤلمة: «والله لا أقوم له، ولا أحمد إلا الله»، في إشارة منها إلى عتبها على الرسول وحزنها مما نالها، منعه نبل أخلاقه من أن تهزأ زوجته بأحد أعدائه وتحاكيه وتصور له مشيته لايسمعهما إلا الله، نبي بلغ من تعظيم معظم علماء أمته له أن منعوا أي تصاوير له مهما كانت دوافع أصحابها، ومهما أظهرت تلك الصور في قالب الإجلال والتعظيم والافتتان بجماله الروحي والجسدي، فإن على أولئك الذين يعترفون بقرارات ألسنتهم - كما في لقاء راديو ال«بي. بي. سي» مع محرر القسم الثقافي في صحيفة لاندز بوستن الدينماركية - أنهم لايعرفون إلا القليل جداً عن الإسلام والرسول محمد، أن يتوقعوا ردة الفعل الصاعقة من المسلمين في أنحاء المعمورة، حينما يصورون نبيهم وحبيبهم ومن هو أعز عليهم وأغلى لديهم من أبنائهم وأموالهم بصور مهينة تحط من قدره وتسخر به، إنه لأمر مثير للقرف أن تبرر الصحيفة تلك الإهانة المتعمدة بأنها نشرت قبل سنتين رسوماً ليسوع المسيح وهو مصلوب وبيده قناني الخمر، فلم المسلمون غاضبون؟!
وتبلغ الصفاقة مداها حينما تعتقد الصحيفة بأن نشر تلك الرسوم ستخلق جواً من الحوار الحضاري.
حتى أولئك الذين لايعتقدون بالإسلام، ولايؤمنون بمحمد نبياً ورسولاً، عليهم أن ينكروا ماحدث، لأن محمداً كان ولم يزل من أعظم من عرفته البشرية عدلاً ونبلاً ورحمة وإنسانية وتحضراً، وأنه لو لم يكن شيء من ذلك أساساً فإن إنساناً يتبع ديانته ربع أهل الأرض لخليق بالحكماء والعقلاء أن يحسبوا لكلمة نابية بحقه أو صورة تنال من مقامه ألف حساب، وعليهم حينما يشطحون أن لا ينتظروا سلماً أو طمأنينة.